Tuesday 28 May 2013

رؤي الليل …


انتهت ساعات يومه … كما اعتادت ان تنتهي منذ بضع سنوات … ها هو يجلس هناك في هذه الحديقة … يفترش الارض الي جوار احد الاشجار …وبينما يداعب نسيم الليل هواءه , يداعب هو تلك اللألئ المعلقة في السماء ويشكو لها … لم يكن واقعه اقل سواداً من سماء الليل التي ظللت وحدته … كما لم يكن مستقبله مشرقاً كذلك …
كانت حياته اشبه بعرض مسرحي ممل … يموت البطل فيه يومياً … نفس الميتة البشعة … قبل وصول نجدته اليه بلحظات … ثم تسدل الستار علي هذا الكم الرهيب من الأسي … كل يوم لسنوات

لقد كان يهرب الي موضعه هذا كل ليلة بعد ان تنقضي ساعات النهار الثقيلة ببرد شتائها او حرارة صيفها … ليجري هو متلهفاً ويجلس هناك … ولم يكن هذا حباً في راحة جمة يجدها في افتراش الارض والاستناد الي جذع خشبي … ولكنه كان عشقاً لهذا الهروب السحري … كل ليلة

اعتاد مع فقره المدقع ان يحيا لياليه في قصر لم يشهد مثله سليمان في كل مجده … ومع انقطاع اوصاله بالاحياء -حين تُرك هو بعد ان فضل الموت الاحتفاظ بارواح من يحب في حوزته الي الابد- … اعتاد في يُتمه ان يراهم هناك … في قصره … اعتاد رؤية وجوههم ومعانقتهم والنظر طويلاً الي عيونهم … و ألف وجود الأسرة التي كادت ان تتلاشي بقاياها من وجدانه مع هروب ذكرياتهم بسبب قسوة الايام …
في القصر … اعتاد الشبع … اعتاد الارتواء … اعتاد الشعور بالاكتفاء …

ولم يكتفِ بالتجول بخياله في المنزل الكبير … فقد جال في مدينته الخاصة … مدينة اعتاد فيها رؤية البسمات المشرقات علي وجوه فقراء المال والايام معاً … اعتاد ان يري عدلاً ينفذ … ويجري مجراه كما نهر خيره كثير… غلبت شمس الظلم التي لطالما شوهت روحه بقسوة نارها … واشرق الحق بيناً … لم يجد اثراً لضحايا بطش الحكام … او جثث اهترأت تعذيباً قبل ان يرحمها الموت من جرعة اكبر من الذل … لم يجد ثائراً مشنوقاً او طالب حق يطفو جثمانه علي ماء الحكم الراكد … كأنما تعمد عقله -عن قصد- اخفاء ما نهش نفس الصبي في النهار من وحشية

في رؤياه …
لم تمت امه بداء الكبد …
ولم يقضِ طاعون الجهل علي نصف عائلته …
لم تحرمه عجلات قطار من اخيه الاكبر …
ولم تكف اخته الطفلة عن الضحك واللهو بسبب ثقب القلب الذي ولدت به …
لم تتعرض خالته الشابة لاغتصابٍ … سمح للهيب الشعور بالرُخص ان يلتهم ما ابقاه لها الفقر من جسدها …
في رؤياه …
لم تترك انحناءة الضحك شفتيه … ولم يحل محلها مجريان محفوران في الوجنتين بفعل انهمار ماء القهر من عينيه …
في رؤياه …
اعتاد الفتي ذو الاثني عشر ربيعا … الشعور بالدفء … اعتاد ان يمرح ويلعب … اعتاد ان يشعر بالسعادة … ان يعيش

ولكنه ادرك ان من يراهم في رؤاه … ليسوا إلا اشباحاً … شبح منزل واشباح اسرة … وشبح دفء وشبح عدل وشبح حق … كلهم اشباح … اشباه القيم والافكار …
ومع باكورة انوار نهار جديد … تفارقه اشباحه وتغيب عنه رؤاه مؤقتا حتي يعود الظلام … و يوماً بعد يوم ساعدته اشباحه ان يصدق ; انه مهما تمني مقابلة هؤلاء في نهاره … ان اكثر ما سيستطيع نواله في نهار دنياه هو رؤية اشباحهم … في رؤاه … رؤي الليل